التاريخ المنسي لخط سكة حديد الحجاز

الكاتب بتاريخ عدد التعليقات : 0
كأن قطار الحجاز الحديدي قد استأنف رحلاته من جديد، ليأخذ المسافرين من دمشق إلى المدينة، لكن هذه المرة عبر صفحات كتاب "خط سكة حديد الحجاز" لمؤلفه البريطاني جيمس نيكلسون، الذي أخذ قراءه في رحلة ممتعة بالأبيض والأسود والألوان، عبر أراضي الحجاز المجدبة والوعرة، الأرض التي كان القطار الحديدي الحجازي يسير فيها منذ أكثر من 100 عام.
من بين كثرة الكتب التي تناولت حكاية خط سكة حديد الحجاز وبطلها الأسطوري توماس إدوارد لورنس (الشهير بـ"لورنس العرب")، ذلك الغربيّ الذي ارتبطت شهرته بالقطار الحجازي وكتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، يأتي "خط سكة حديد الحجاز" ليملأ فراغاً مهماً. إذ يعيد إلى القارىء المعاصر قصة بناء وتدمير القطار الحديدي الحجازي المثيرة.

بخلاف الكتب السابقة، التي ركزت على جانب واحد، كالخلفية السياسية أو الهندسية، حكى نيكلسون الحكاية من منظور أوسع، بالإضافة إلى ملاحظاته الدقيقة والذكية، التي لا تخطئُها عين القارىء اللمّاح.

قَسم المؤلف الكتاب إلى قسمين. أولهما يصف بناء خط سكة حديد الحجاز وعصره الذهبي القصير قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ بدأ بفكرة إنشاء خط سكة الحديد التي نَمَت في ذهن عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين السلطنة العثمانية (1876-1909)، لتحقيق أهداف عدة أولها الهدف الديني. فالسلطان الذي كان خليفة المسلمين وخادم الحرمين الشريفين، رأى أن إنشاء خط سكة حديدي يربط بين دمشق ومدينتي الإسلام المقدستيْن، سيجعل رحلة الحجيج من الشام إلى الحجاز أسهل وأقل مشقة.



ثانياً، الهدف السياسي، وهو أن إنشاء مشروع "هندسي" بهذا الحجم من شأنه أن يمنحه مكانة أدبية رفيعة وسط البلدان الأوروبية الأكثر تقدماً صناعياً. وجاءت الفكرة أيضاً لتعزز فكرة السلطان نفسه عن "الجامعة الإسلامية"، التي تعني توحيد جميع المسلمين الذين يعانون من الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي تحت راية واحدة. أما من الناحية الاقتصادية، فكان لتعزيز التجارة والتنمية الزراعية والحضرية في وقتٍ كانت تعاني السلطنة العثمانية من مشكلات اقتصادية جمة.



لتنفيذ هذا المشروع "الخيالي" و"شبه المستحيل"، وفي ظل إصرار السلطان عبد الحميد على أن يكون إنشاؤه بأموال وعمالة ومعدات ومواد خام عثمانية فقط، دُشَّنَت حملة لجمع التبرعات أعلنها السلطان نفسه بعدما تبرع بـ50 ألف ليرة عثمانية. ثم انهالت التبرعات من كثير من المسلمين من الهند ومصر وغيرهما، كذلك الشركة الألمانية المشرفة على المشروع، الذي انطلق رسمياً في سبتمبر 1900، واستكمل عام 1908. وبقي يعمل حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
بلغت كلفته أكثر من أربعة ملايين ليرة عثمانية، ويلفت المؤلف إلى أن إنشاء الخط تم في غياب كامل للفساد، الأمر الذي ربما بدا مثيراً للدهشة والإعجاب في الوقت نفسه.



في القسم الثاني، يصف نيكلسون الهجمات على القطار الحجازي، وقد أفضت في النهاية إلى تدميره. وعقب قيام الحرب العالمية، قامت ما باتت تُعْرَف بـ"الثورة العربية الكبرى"، التي كان بطلها الشريف حسين أمير مكة ضد العثمانيين، وقررت بريطانيا التدخل لمساندة الثورة العربية، واعتبر البريطانيون وحلفاؤهم العرب سكة حديد الحجاز هدفاً عسكرياً لاستخدامه في نقل الجنود والمعدات أثناء الحرب. بدأت الحرب التي قادها لورنس العرب ضد القطار الحجازي عام 1917 وانتهت بسقوط المدينة المنورة في يد الثوار العرب في يناير 1919.

حَرِصَ نيكلسون على الجمع بين المتعة الخفيفة والمعرفة السخية، ليتوجه إلى القارىء المتخصص وغير المتخصص. وأسهم حجمه الكبير والصور الفوتوغرافية الأبيض والأسود، أو الملونة، إلى جانب الرسوم التوضيحية مثل الخرائط، في تقديم وجبة بصرية دسمة وممتعة ومفيدة.


وقد بذل المؤلف جهداً توثيقياً، فالصور القديمة أرشيفية ولم تظهر على شبكة الويب من قبل، كما حمل كاميرته وقام برحلات ميدانية في السعودية والأردن وسوريا، ليلتقط صور الآثار الباقية من محطات سكة حديد الحجاز، إلى جانب مواضع القتال بين جنود الحاميات العثمانية والثوار العرب بقيادة لورنس العرب، وهذا ما أضفى بعداً بصرياً لدرامتيكية القصة التي يرويها الكتاب.

تشهد ببليوغرافيا الكتاب التي تزيد على المئة كتاب ومرجع، على جهد الكاتب لوضع "خط سكة حديد الحجاز"، وبجدارة استفاد المؤلف من المراجع المهمة والجادة، في ما يتعلق بتاريخ هذا الخط الحديدي كي يلقي ضوءاً على حقبة من أهم الحقب وأكثرها تأثيراً في شبه الجزيرة العربية، وعلى علاقتها المعقدة بالدولة العثمانية المحتضرة حينذاك.



اعتمد الكاتب أسلوباً يُشعر القارىء كأنه يشاهد فيلماً تسجيلياً، لكنه نجح في أن يضفي عليه مسحة درامية تغلّب فيها على جفاف المادة التسجيلية، إذ يمكن للقارىء أن ينتهي من قراءة الكتاب في جلسة واحدة. كما ساهم أسلوبه في جعل القارىء يدرك أبطال القصة كبشر من لحم ودم، وليس مجرد "أشياء" أو كيانات غائمة. أسماء مثل مايسنر وجمال باشا وفخري باشا والشريف حسين وأبنائه ولورنس العرب وغيرهم، تتضح ملامحهم تماماً أثناء القراءة. فيكاد يرى ويسمع أصوات التفجيرات التي كان البمباشي غارلاند والعقيد نيوكومب ولورنس العرب وسلاح الطيران الملكي والقوات العربية ينفذونها ضد أهداف عثمانية، تستهدف تدمير قاطرات خط الحديد الحجازي.

وُلِدَ جيمس نيكلسون في بورنموث في إنغلترا عام 1956. تلقى تعليمه في إپسوم كوليدج وكينغز كوليدج في لندن. وحصل على الماجستير في اللغويات من جامعة سَرِي. عمل في الشرق الأوسط مدة 27 عاماً ويعيش اليوم في الرياض.

0 تعليق على موضوع "التاريخ المنسي لخط سكة حديد الحجاز"


الإبتساماتإخفاء